تناولت مدونة أولي النهى هذا الموضوع أقسى ما في الجحود… أنه يأتي ممن وُهب لهم كل شيء ، فليست كل الجراح تُرى، ولا كل القسوة تُقال. بعضها يُخبئه الآباء في قلوبهم، خوفًا من أن ينكسر شيء في أرواح أبنائهم، حتى وهم يُطعنون بالجحود. وقد تناولت هذا الألم الإنساني في مواضع متعددة، لأن الطيّبون لا يُفهمون دائمًا، والعطاء غير المشروط… فخّ القلوب الطيبة، ولأنّ هناك لحظات يؤلمك فيها النكران، ولا تُجدي الكلمات، خاصة حين تُعامل كخيار احتياطي ممن كنت تعتبرهم أولويتك. وتحدّثت أيضًا عن صمت الآباء الذين لا يشكون، رغم أنهم يرون أبناءهم وقد تغيّروا، وتسلّل الجفاء إلى علاقتهم بهم. هذا الصمت هو نفسه الذي نتعامل معه حين نخسر الطيبين بلا أن نشعر، أو حين ننتظر من لا يعود، ونتألم لأننا أعطينا من لا يستحق. إنّه ذاك الجرح الصامت الذي يظهر في العلاقات المنهكة التي لا تُصلحها التضحية وحدها، وتُجبرنا في لحظة ما على التخطي من أجل البقاء. وتتسطر المقولة في:
عندما لا يقدر الأبناء عطاء الآباء الغير مشروط
حينها يسطَّع الجُحود والتقصير والنُكران جلياً
وبكل أسف … يتكبد الآباء عناء أن لا تغضب قلوبهم على أبناءهم …
فيحصُد الأبناء قسوة أفعالهم !!
وفي كل ذلك، كنا نعود إلى أنفسنا، ونسأل:
هل أخطأنا؟ هل بالغنا؟ هل كنا طيّبين أكثر مما ينبغي؟
وقد حاولت أن أُضيء هذا السؤال في مقال: “بين النقص والشعور بالتقصير”، وبيّنتُ كيف أن الخذلان لا يعني أننا فشلنا، بل يعني أن البعض لم يكن جديرًا بما قدّمناه.
تكرار التجربة مع الأبناء المؤلمين، مثلهم مثل العلاقات المؤذية الأخرى، يجعلنا نُدرك أن بعض الجراح لا تُشفى إلا إذا توقّفنا عن منح الأعذار، وفهمنا أن الجحود لا يحتاج إلى دليل صريح، يكفي أن تُنسى في لحظة كنت فيها في أمسّ الحاجة إلى الاحتواء.
الأب لا يطلب مقابلاً حين يعمل ليلاً ونهاراً، والأم لا تنتظر شيئًا وهي تُطعم أبناءها وتُربّيهم على مدار السنين. هما لا يشتكيان لأنهما يعتبران ذلك جزءاً من رسالتهما. لكن الإنسان مهما بلغت محبته، يبقى قلبه بشراً. يؤلمه النكران، ويُرهقه الجحود، ويكتم آهاته فقط كي لا يُخدش ما تبقى من كرامة الحب الذي أهداه.
حين ترى في عيون الأب أو الأم نظرة صمت، اعرف أن ما خذلوك فيه قد تجاوز قدرة احتمالهم. وحين لا يُعاتبونك… فالألم أعمق من أن يُقال. ليسوا ضعفاء، بل أقوياء بما يكفي ليُسامحوا بصمت، ويحبّوا رغم الخذلان، ويكتموا دموعهم حتى لا تُثقل بها ضمائرك.
هناك أبناء لا يُدرِكون أنهم يتغيرون. لا يرون أنفسهم وهم يُهملون، أو حين يُقدّمون أولوياتهم على من كان يوماً كل أولوياتهم. مشغولون بالمسافات، بالأصدقاء، بالأبناء، بالشهرة، بكل شيء… إلا من جعل وجودهم في هذه الحياة ممكنًا. الغفلة عن الوالدين ليست فقط نسياناً… بل تقصير مؤلم يتراكم في قلوب الآباء بصمت.
عطاء الآباء لا يمكن أن يُقابَل بالمثل، لكن يمكن أن يُقابَل بالاحترام. بالاتصال المنتظم، بالوقوف في الحاجة، بالابتسامة الصادقة، بالكلمة الطيبة، بإشعارهم أنهم لا يزالون أحياء في قلوب أبنائهم، لا على هامش حياتهم. أكبر الخيانات خيانة الذاكرة… حين تنسى من لا ينساك.
الأبناء الذين لا يشعرون بثقل ما تركوه من ألم، لا يُدركون أنهم سيواجهونه مستقبلاً. فالدنيا لا تُهمل العدل. وقد تكون تلك القسوة التي أظهروها… هي ما سيُربِّي أبناءهم عليهم لاحقاً. من يتجاهل والديه، يُعلّم أبناءه اللاشعوري كيف يعتادون الغياب والجفاف، فتكون النتيجة قاسية على قلبه ذات يوم.
كم من أب يدعو لأبنائه بالخير… ويدعو لنفسه أن لا يتألم منهم. كم من أم تُحسن وتُخفي وجعها، فقط لتُبقي الرابط نقياً. وهم يعرفون أنهم لم يعودوا الأولوية، لكنهم لا يشكون. هؤلاء لا يحتاجون للعقوق الصريح، فمجرد النكران العاطفي، والإهمال المتكرر… كفيل بأن يخلق شرخاً لا يُرمّم بسهولة.
هناك أبناء يرون أن رد الجميل بضع هدايا موسمية أو زيارة عابرة، ولا يدركون أن ما يُطلب منهم لا يُشترى، بل يُشعر. أن ما يبحث عنه الوالدان هو الطمأنينة، الدفء، المعنى، الحضور القريب الذي يُشعرهم أن تعبهم لم يذهب هباءً.
تربية الأبناء مسؤولية الآباء، لكن رد المعروف مسؤولية أخلاقية. من يملك ذرة وعي، لا يسمح لنفسه أن يُهمل من ربّاه، أن يُشغل عن من أطعمه، أن يُفضّل الغريب على من خاف عليه من نفسه. لأن الجحود لا يُغتفر إلا من أبوين أحبّا أكثر مما أُحبّا.
كل أب وأم يعرفون أن أبناءهم ليسوا ملائكة، لكنهم يتمنون ألا يكونوا قساة. لأن القسوة هنا لا تُجرح فحسب، بل تُحطّم معنى الأبوة والأمومة. أن تُعطي دون أن تُرى، أن تضحّي دون أن تُشكر، أن تنتظر دون أن يأتيك أحد… كل هذا يحتاج قلبًا يفوق القدرة البشرية.
الخلاصة:
إن لم تعرف كيف تُقدّر والديك… فلا تُؤذِهم على الأقل بنسيانك.
وإن لم تستطع أن تردّ جميلهم… فلا تجعلهم يشعرون أنهم كانوا خطأ.
كن باراً… لأن القلوب التي أُهديت لك يوماً، قد تُحرم منها فجأة، وتبقى أنت… مع ذاكرة خالية إلا من التقصير.
د. سلطان عقيل
جعلنا الله واياكم من أولي النهى

