Signup our newsletter to get update information, news, insight or promotions.

صفاء النفس.. حين تغنيك السكينة عن ضجيج الناس

تناولت ضمن مدونتي أولي النهى في موضوعاتٍ عدة فكرة “العزلة الواعية” وكيف أن الإنسان كلما ازداد صفاءً مع نفسه، ازداد وعيًا بما يستحق البقاء في حياته وما يجب أن يرحل. فصفاء النفس ليس انطواءً، بل توازن عميق بين الداخل والخارج، بين صمتٍ يُنضج الفهم وضوضاءٍ تُشتت المعنى، وقد تضمنت هذه الأسطر مقولة تجسد هذه الأفكار والمعاني:  

حين تصفو مع نفسك، تسقط حاجتك إلى الآخرين. افعل الخير لأنك تريد، لا لأنهم يرون. فالناس تُكبر أخطاءك، وتغفل عن نقائك، حتى الجاهل منهم يتحدث وكأنه أعلم الناس بك. فابحث عن السكينة في خلواتك، فهي أثمن من المجاملة في ضوضاء الآخرين.

فهناك لحظات في الحياة يكتشف فيها الإنسان أن صمته أنفع من كل جدال، وأن خلوته أصدق من كل لقاء. فحين تصفو مع نفسك، لا تعود بحاجة إلى تصفيق الناس أو تبرير اختياراتك. تكتفي بما في قلبك من يقين، وتدرك أن راحة الضمير أثمن من رضا الآخرين. فالسكينة لا تأتي من الخارج، بل من انسجام داخلي يولّده الصدق مع الذات.

غير أن الوصول إلى هذا الصفاء ليس سهلًا؛ فالنفس تميل بطبيعتها إلى التبرير والتزيين، والعالم من حولنا يغذي الحاجة المستمرة إلى الظهور والتقدير. نعيش وسط سباقٍ محموم لإرضاء من لا نعرفهم، فنُهلك أرواحنا في مجاملةٍ لا تشبهنا. وهنا يتجلّى جوهر الحكمة: أن تختار السكينة على الصخب، وأن توازن بين وجودك الاجتماعي وحقك في أن تكون كما أنت دون تصنّع أو قناع.

إن الإنسان الذي يصفو مع نفسه لا ينشغل كثيرًا بمن أساء فهمه أو قلّل من شأنه؛ لأنه يعلم أن تقييم الآخرين لا يغيّر من جوهره شيئًا. بل إن النقاء الداخلي يجعلك ترى المسيء بعين العطف لا الغضب، لأنك تفهم أن ما يقوله عنك إنما يعكس ما في داخله هو، لا ما فيك أنت. فكلما تطهّر القلب من حاجة التبرير، ازداد صفاؤه وقدرته على الحب دون ضعف، والعطاء دون انتظار المقابل.

وفي مدونة أولي النهى، كثيرًا ما أشرت إلى أن السكينة حالة وعي وليست حالة هدوء فقط؛ فهي ثمرة إدراكٍ عميق لحقيقة أن رضا الناس متقلب، بينما رضا الله وسلام النفس ثابتان. من ذاق طعم السكينة يعلم أنها ليست في الغرف الهادئة، بل في قلبٍ مطمئنٍ حتى وسط الزحام. لهذا قيل: “من وجد الله ماذا فقد؟ ومن فقد الله ماذا وجد؟” فكل ما عدا الصدق مع الله ومع النفس سراب مهما تلون.

حين تصفو مع نفسك، لا تعود بحاجة إلى أن تثبت للناس شيئًا. لا تسعى لأن تكون مثاليًا في أعينهم، بل صادقًا في عين الله. تتقبل ضعفك وأخطائك دون جلدٍ ولا تبرير، لأنك تعلم أن كل سقوطٍ كان درسًا يقربك من جوهر الحقيقة. فالنقاء ليس أن تكون بلا خطأ، بل أن تملك شجاعة الاعتراف بأنك إنسان تتعلم في كل مرة من الألم.

السكينة الحقيقية أن تنام وقلبك خفيف، لا يحمل حقدًا ولا رغبة في إثبات ذاته على حساب أحد. أن تحب بصمت، وتسامح في غياب الاعتذار، وتفعل الخير لأن الخير يشبهك لا لأن الناس تراه. إنها لحظة وعيٍ يدرك فيها الإنسان أن أعظم انتصارٍ في الحياة هو أن تبقى نقيًا رغم قسوة الآخرين.

وكلما صفا قلبك، سقطت حاجتك إلى الشرح والجدال. تبدأ تدرك أن الكلمة التي تُقال لتثبت أنك على حق لا تستحق أن تُقال، لأن الحق لا يحتاج إلى صخبٍ ليُرى. وعندها فقط، تنضج روحك وتفهم أن السعادة ليست أن تُرضي الجميع، بل أن ترضى أنت عن نفسك. هذه هي الحرية التي لا تُشترى، الحرية التي تولد من رحم السكينة.

إن صفاء النفس لا يعني العزلة عن العالم، بل يعني ألا يفقد الإنسان نفسه وسط صخب الناس. حين تصفو، ترى الأشياء على حقيقتها، وتختار الخير لأنك تريده، لا لأنهم يرونه. وفي عالمٍ يكثر فيه الزيف، يصبح أنقى ما تملكه هو قلبك حين يبقى صادقًا معك. فابحث عن السكينة، فهي التي تردّك إليك كلما بعثرتك الضوضاء.


 

د. سلطان عقيل 

جعلنا الله واياكم من أولي النهى

2025© جميع الحقوق محفوظة لـ د. سلطان عقيل – موقع أولي النهى ouli-alnouha.com
يُسمح بنقل أو اقتباس المحتوى بشرط ذكر المصدر بوضوح مع رابط مباشر للمقالة الأصلية.

Facebook
Twitter
Email
Print

2 Responses

  1. تحياتي وكل التقدير لهذا المحتوى الراقي لهذا الغوص والعمق في النفس البشرية حقيقي شكرا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

صفاء النفس.. حين تغنيك السكينة عن ضجيج الناس

صفاء النفس.. حين تغنيك السكينة عن ضجيج الناس ، حين تصفو مع نفسك، تسقط حاجتك إلى الآخرين. افعل الخير لأنك تريده لا لأنهم يرونه. فالسكينة التي تجدها في خلواتك، لا يهبها لك ضجيج العالم مهما كان صاخبًا.

→ قراءة المزيد
الغباء والكبرياء: رفيقا السقوط في حياة البشر

الغباء والكبرياء: رفيقا السقوط في حياة البشر ، أصعب خسارة هي أن تخسر وأنت تعلم أنك الخاسر، لكنك تمضي لأن كبرياءك لا يسمح لك بالاعتذار. فالعاقل يتواضع، ‏والجاهل يتكبر، وبينهما تُقاس قيمة الإنسان‎.‎

→ قراءة المزيد