تتسارع امامنا الحياة وتتجدد أمام أعيننا بفتنتها، يشرق النهار على مشاهد من البهجة، وتخطفنا ألوان الدنيا التي لا تنتهي من متاع وزينة. نعيش وكأن العمر رحلة قصيرة خُلقت لنستنفذها في جمع ما يلمع ويبهج، حتى تترسخ في أذهاننا صورة عن الدنيا تكاد تكون بلا حدود، وكأنها نهاية المطاف، بينما تبقى صورتنا عن الآخرة مشوشة ضبابية، تختزل في مشاهد الحساب والميزان، والرهبة من يوم لا مفر منه. هذا الخلل في الرؤية يجعلنا نميل بالكلية نحو ما هو فانٍ، ونغفل عما هو أبقى، بينما اليقين بالآخرة لم يُطلب منا ليحرمنا الدنيا، بل ليهذب سعينا ويمنح أعمارنا معنى يليق بها. وفي مدونة أولي النهى كنتُ قد تناولت في مقالات عدة في هذا الصدد وكيف أن المؤمن حين يربط صبره بالله لا بنفسه، تتغير موازين الألم والمعنى في حياته، وهو ما تجسده أعظم قصة للصبر الإيماني في القرآن؛ قصة يوسف ويعقوب عليهما السلام.
تبدأ القصة حين يخذلك من ظننتهم سندك، ويأتونك بوجعٍ ملفوفٍ بثياب الكذب، فلا تملك سوى أن تُسلم قلبك لله، وتقول كما قال الصابر الأول:
﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ۚ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ (يوسف: 18)
كان صبر يعقوب عليه السلام صبرًا لا يضج بالشكوى، ولا يئن من القدر، بل يلوذ باليقين. لم يكن استسلامًا، بل تسليمًا واعيًا بأن الحكمة الإلهية أوسع من حدود الفقد، وأن ما غاب عن العيون لم يغب عن علم الله. هنا تتجلى أولى درجات الصبر الجميل؛ ذلك الصبر الذي لا ينطق إلا بـ”الله المستعان”، كأنها كلمة النجاة في وجه كل ألمٍ مباغت.
ويمضي الزمن، ويُعاد المشهد ذاته ولكن في طبقةٍ أعمق من البلاء، حين يُفقد الابن الآخر، فيتكرر الوجع، وتختبر الأرض ما تبقى من يقين السماء في قلب يعقوب، فلا يقول إلا ما قاله من قبل، لكن هذه المرة تنضح كلماته بالثقة والسكينة التي لا تُكتسب إلا من طول المعاناة:
﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ (يوسف: 83)
لم يعد الصبر احتمالًا مؤلمًا، بل طمأنينةً راسخة بأن الله لن يخذل قلبًا صدق في التوكل. فالزمن لا يُضعف الإيمان الحق، بل يُصفّيه من شوائب الجزع، ليصير اليقين أنقى وأقوى. بين الآيتين مسافة عمرٍ كامل، لكنها كانت المسافة التي نضج فيها الصبر وتحول من احتمالٍ إلى عبادةٍ واعية.
ثم تأتي لحظة الكشف، لحظة تتنفس فيها الأقدار وتظهر الرحمة في وجهٍ من الوجوه التي ظنّ الناس أنها ماتت في البئر. حين يتلاقى يوسف بأخوته، وتنكشف حكمة الله في تأخير الفرج، يفيض المشهد بصدق الوعد الإلهي، فيقول يوسف عليه السلام بكل تواضع المؤمن الذي أدرك المعنى بعد طول البلاء:
﴿قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ ۖ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي ۖ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ۖ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف: 90)
وهنا يعلن الله قانونه الأبدي: أن التقوى والصبر توأمان لا يفترقان، وأن الصبر الجميل لا يثمر بالفرج فقط، بل برفعة المقام، فالله لا يضيع أجر المحسنين لأن إحسانهم لم يكن في النتائج، بل في الثبات على الطريق.
تلك هي الحقيقة التي تغيب عن كثيرٍ من القلوب في زمن السرعة والضيق؛ أن تأخر الفرج ليس علامة نسيان، بل إعداد للنفوس كي تحتمل النعمة بعد الشدة، وتقدّر الرحمة بعد الوجع. في قصة يوسف عليه السلام، كل حدثٍ كان يبدو مأساويًا هو في جوهره تمهيدٌ للعز والتمكين، حتى إن البئر والسجن لم يكونا نقيضين للكرامة، بل سلّمين إليها.
وفي “مدونة أولي النهى” أحاول دوماً أن أذكّر نفسي والقراء أن الصبر ليس صمتًا أمام القدر، بل وعيًا بمعناه، وأن المؤمن لا يُبتلى ليُكسر، بل ليُكمَّل. فصبر يعقوب لم يرد إليه يوسف فحسب، بل رد إليه سكينته وإيمانه أكثر إشراقًا. وصبر يوسف لم يخرجه من السجن فقط، بل رفعه إلى مقام الإحسان الذي لا يبلغه إلا من ذاق مرارة البلاء بثقةٍ ورضا.
وهكذا، يعلّمنا الله من خلال يوسف أن كل ظلمةٍ في الحياة هي مرحلة عبور نحو النور، وأن كل تأخيرٍ في الفرج هو تهيئةٌ للقلب ليحسن حمل العطاء. فالصبر الجميل لا يطلب تعويضًا، بل يعيش في يقين أن كل ما كتب الله خير.
حين تتأخر الإجابة، لا تظن أن الله أغفل سؤالك، بل يؤجله ليمنحك ما هو أوسع من حاجتك: يمنحك نضجًا وإيمانًا وسكينةً تُغنيك عن التساؤل.
قصة يوسف عليه السلام ليست سردًا لمآسٍ متتابعة، بل خارطة طريق لكل من يطول عليه البلاء. فيها يُقال بوضوح إن الله لا ينسى، وإن الفرج حين يأتي يكون كاملاً، لأن الله لا يُتمّ النهايات إلا بقدرٍ جميلٍ يليق بمن صبر جميلًا.


4 Responses
من تتبع قصة يعقوب. و ابنهويوسف عليهما السلام. لوجد نفس الخطاب الاهي الموجه الى باقي الانبياء و الرسل. و قصة يوسف لها دلالات لا يفقهها الا من تدبر الايات بإحكام و كان اهل تقوى و إيمان. و النساء المذكورات في السورة و البئر و الرؤيا التي رءاعا ليت كما يتوهمه البعض. و القرآن اسمى و متنزه عن ذلك .حاشاه. و انما هي معاني الجهاد و المثابرة و الصبر على الابتلاء بشتى انواعه و بمختلف صوره. نسأل الله ان يعلمنا ما ينفعنا و يفهمنا ما علمنا و يزدنا علما.
جزاك الله خير الجزاء
جزاكم الله عنا خير الجزاء
والله لقد ارسلكم الله لي اليوم رسالة
فقد حاد أن ينفذ صبري على ما انا فيه
أشهد الله أنه ليس جزعا ولكن ألما لا يعلمه إلا هو
فاللهم لك الحمد حتى ترضى.
وكنت محتاجه أسأل عن كيفية دخولي في هذه المدونة للاستفادة بكل ما هو جديد
لي ولكل من حولي
وجزاكم الله عنا خير الجزاء
اللهم امين واياكم والمسلمين اجمعين، بامكانك الاشتراك في القائمة البريدية ، ومتابعة المقولات ايضا عن طريق منصات التواصل الاجتماعي الموضحة اخر الصفحة.